فصل: أبو البيان بن المدور

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء **


 أفرائيم بن الزفان

هو ابو كثير أفرائيم بن الحسن بن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب إسرائيلي المذهب وهو من الأطباء المشهورين بديار مصر وخدم الخلفاء الذين كان في زمانهم وحصل من جهتهم من الأموال والنعم شيئاً كثيراً جداً وكان قد قرأ صناعة الطب على أبي الحسن علي بن رضوان وهو من أجل تلامذته وكانت له همة عالية في تحصيل الكتب وفي استنساخها حتى كانت عنده خزائن كثيرة من الكتب الطبية وغيرها وكان أبداً عنده النساخ يكتبون ولهم ما يقوم بكفايتهم منه ومن جملتهم محمد بن سعيد بن هشام الحجري وهو المعروف بابن ملساقه ووجدت بخط هذا عدة كتب قد كتبها لأفرائيم وعليها خط أفرائيم وحدثني أبي أن رجلاً من العراق كان قد أتى إلى الديار المصرية ليشتري كتباً ويتوجه بها وأنه اجتمع مع أفرائيم واتفق الحال فيما بينهما أن باعه أفرائيم من الكتب التي عنده عشرة آلاف مجلد وكان ذلك في أيام ولاية الأفضل بن أمير الجيوش فلما سمع بذلك أراد أن تلك الكتب تبقى في المصرية ولا تنتقل إلى موضع آخر فبعث إلى أفرائيم من عنده بجملة المال الذي كان قد اتفق تثمينه بين أفرائيم والعراقي ونقلت الكتب إلى خزانة الأفضل وكتبت عليها ألقابه ولهذا إنني قد وجدت كتباً كثيرة من الكتب الطبية وغيرها عليها اسم أفرائيم وألقاب الأفضل أيضاً وخلف أفرائيم من الكتب ما يزيد على عشرين ألف مجلد ومن الأموال النعم شيئاً كثيراً جداً‏.‏

ولأفرائيم بن الزفان من الكتب تعاليق ومجريات جعلها على جهة الكناش ووجدت هذا الكتاب بخطه وقد استقصى فيه ذكر الأمراض ومداواتها وقد ذكر في أوله ما هذا نصه قال أقول وأنا أفرائيم إنني جعلت هذا الكتاب تذكرة على طريق المجموع لا على جهة التصنيف احتياطاً على من يعالج من السهو كتاب التذكرة الطبية في مصلحة الأحوال البدنية ألفها لنصير الدولة أبي علي الحسين بن أبي علي الحسن بن حمدان لما أراد الانفصال عن مصر والتوجه إلى ثغر الإسكندرية والبحيرة وتلك الأعمال مقالة في التقرير القياسي على أن البلغم يكثر تولده في الصيف والدم والمرار الأصفر في الشتاء‏.‏

 سلامة بن رحمون

هو أبو الخير سلامة بن مبارك بن رحمون بن موسى من أطباء مصر وفضائلها وكان يهودياً وله أعمال حسنة في صناعة الطب واطلاع على كتب جالينوس والبحث عن غوامضها وكان قد قرأ صناعة الطب أفرائيم واشتغل بها عليه مدة وكان لابن رحمون أيضاً اشتغال جيد بالمنطق والعلوم الحكمية وله تصانيف في ذلك وكان شيخه الذي اشتغل عليه بهذا الفن الأمير أبو الوفاء محمود الدولة المبشر بن فاتك ولما وصل أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي من المغرب إلى الديار المصرية اجتمع بسلامة بن رحمون وجرت بينهما مباحث ومشاغبات وقدذكره ابن أبي الصلت في رسالته المصرية عندما ذكر من رآه من أطباء مصر قال وأشبه من رأيته منهم وأدخلهم في عدد الأطباء رجل من اليهود يدعي أبا الخير سلامة بن رحمون فإنه لقي أبا الوفاء المبشر بن فاتك فأخذ عنه شيئاً من صناعة المنطق تخصص به وتميز عن أضرابه وأدرك أبا كثير بن الزفان تلميذ أبي الحسن بن رضوان فقرأ عليه بعض كتب جالينوس ثم نصب نفسه لتدريس جميع كتب المنطق وجميع كتب الفلسفة الطبيعية والهيئة وشرح بزعمه وفسر ولخص ولم يكن هناك في تحصيله وتحقيقه واستقصائه عن لطيف العلم ودقيقه بل كان يكثر كلامه فيضل ويسرع جوابه فيزل ولقد سألته أول لقائي له واجتماعي به عن مسائل استفتحت مباحثه بها مما يمكن أن يفهمها من لم يكن يمتد في العلم باعه ولم يكثر تبحره واتساعه فأجاب عنها بما أبان عن تقصيره ونطق بعجزه وأعرب عن سوء تصوره وفهمه وكان مثله في عظم دواعيه وقصوره عن أيسر ماهو متعاطيه كقول الشاعر يشمر للج عن ساقه ويغمره الموج في الساحل تمنيتم مائتي فارس فردَّكم فارس واحد قال أبو الصلت وكان طبيب من أهل إنطاكية يسمى بجرجس ويلقب بالفيلسوف على نحو ما قيل في الغرب أبو البيضاء وفي اللديغ سليم قد تفرغ للتولع بابن رحمون والإزراء عليه وكان يزور فصولاً طبية وفلسفية يقررها في معارض ألفاظ القوم وهي محال لا معنى لها وفارغة لا فائدة فيها ثم إنه ينفذها إلى من يسأله عن معانيها ويستوضحه أغراضها فيتكلم عليها ويشرحها بزعمه دون تيقظ ولا تحفظ بل باسترسال واستعجال وقلة اكتراث واهتبال فيوجد فيها عنه ما يضحك منه وأنشدت لجرجس هذا فيه وهو أحسن ما سمعته في هجو طبيب إن أبا الخير على جهله يخف في كفته الفاضل عليله المسكين من شؤمه في بحر هلك ماله ساحل ثلاثة تدخل في دفعة طلعته والنعش والغاسل ولبعضهم لأبي الخير في العلا - - ج يد ما تقصر كل من يستطبه بعد يومين يقبر والذي غاب عنكم وشهدناه أكثر وله جنون أبي الخير الجنون بعينه وكل جنون عنده غاية العقل خذوه فغلوه فشدو وثاقه فما عاقل من يستهين بمختل وقد كان يؤذي الناس بالقول وحده فقد صار يؤذي الناس بالقول والفعل ولسلامة بن رحمون من الكتب كتاب نظام الموجودات مقالة في السبب الموجب لقلة المطر بمصر مقالة في العلم الإلهي مقالة في خصب أبدان النساء بمصر عند تناهي الشباب‏.‏

هو مبارك بن أبي الخير سلامة بن مبارك بن رحمون مولده ومنشؤه بمصر وكان أيضاً طبيباً فاضلاً ولمبارك بن سلامة بن رحمون من الكتب مقالة في الجمرة المسماة بالشقفة والخزفة مختصرة‏.‏

 ابن العين زربي

هو الشيخ موفق الدين أبو نصر عدنان بن نصر بن منصور من أهل عين زربة وأقام ببغداد مدة واشتغل بصناعة الطب بالعلوم الحكمية ومهر فيها وخصوصاً في علم النجوم ثم بعد ذلك انتقل من بغداد إلى الديار المصرية إلى حين وفاته وخدم الخلفاء المصريين حظي في أيامهم وتميز في دولتهم وكان من أجل المشايخ وأكثرهم علماً في صناعة الطب وكانت له فراسة حسنة وإنذارات صائبة في معالجته وصنف بديار مصر كتباً كثيرة في صناعة الطب وفي المنطق وفي غير ذلك من العلوم وكانت له تلاميذ عدة يشتغلون عليه وكل منهم تميز وبرع في الصناعة وكان ابن العين زربي في أول أمره إنما يتكسب بالتنجيم‏.‏

وحدثني أبي قال حكى لي سبط الشيخ أبي نصر عدنان بن العين زربي أن سبب اشتهار جده في الديار المصرية واتصاله بالخلفاء أنه ورد من بغداد رسول إلى ديار مصر وكان يعرف ابن العين زربي ببغداد وما هو عليه من الفضل والتحصيل والإتقان لكثير من العلوم فلما كان ماراً في بعض الطرق بالقاهرة وإذا به قد وجد ابن العين زربي جالساً وهو يتكسب بالتنجيم فعرفه وسلم عليه وبقي متعجباً من كثرة تحصيله للعلوم وكونه متميزاً في علم صناعة الطب وهو على تلك الحال وبقي في خاطره ذلك فلما اجتمع بالوزير وتحدثا أجرى ذكر ابن العين زربي وما هو عليه من العلم والفضل والتقدم في صناعة الطب وغيرها وكونهم لم يعرفوا قدره ولا انتهى إليهم أمره وإن الواجب في مثل هذا لا يهمل فاشتاق الوزير إلى رؤيته والاجتماع بمشاهدته فاستحضر وسمع كلامه فأعجب به واستحسن مما سمعه منه وتحقق فضله ومنزلته في العلم وأنهى أمره إلى الخليفة فأطلق له ما يليق بمثله ولم تزل أنعامهم تصل إليه ومواهبهم تتوالى عليه‏.‏

أقول وكان ابن العين زربي خبيراً بالعربية جيد الدراية لها حسن الخط وقد رأيت كتباً عدة في الطب وفي غيره بخطه هي في نهاية الحسن والجودة ولزم الطريقة المنسوبة وكان أيضاً يشعر وله شعر جيد وتوفي رحمه اللَّه في ثمان وأربعين وخمسمائة بالقاهرة وذلك في دولة الظافر بأمر اللَّه‏.‏

ولابن العين زربي من الكتب كتاب الكافي في الطب وصنفه في سنة عشر وخمسمائة بمصر وكمل في السادس والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وأربعين وخمسمائة شرح كتاب الصناعة الصغيرة لجالينوس الرسالة المقتنعة في المنطق ألفها من كلام أبي نصر الفارابي والرئيس بن سينا مجربات في الطب على جهة الكناش جمعها ورتبها ظافر بن تميم بمصر بعد وفاة ابن العين زربي رسالة في السياسة رسالة في تعذر وجود الطبيب الفاضل ونفاق الجاهل مقالة في الحصى وعلاجه‏.‏

 بلمظفر بن معرف

هو بلمظفر نصر بن محمود بن المعرف كان ذكياً فطناً كثير الاجتهاد والعناية والحصر في العلوم الحكمية وله نظر أيضاً في صناعة الطب والأدب ويشعر وكان قد اشتغل على ابن العين زربي ولازمه مدة وقرأ عليه كثيراً من العلوم الحكمية وغيرها ورأيت خطه في آخر تفسير الإسكندر لكتاب الكون والفساد لأرسطوطاليس وهو يقول إنه قرأه عليه وأتقن قراءته وتاريخ كتابته لذلك في شعبان سة أربع وثلاثين وخمسمائة وكان بلمظفر حسن الخط جيد العبارة وكان مغرى بصناعة الكيمياء والنظر فيها والاجتماع بأهلها وكتب بخطه من الكتب التي صنفت فيها شيئاً كثيراً جداً وكذلك أيضاً كتب كثيراً من الكتب الطبية والحكمية وكانت له همة وحدثني الشيخ سديد الدين المنطقي عنه أنه كان في داره مجلس كبير مشحون بالكتب على رفوف فيه وأن بلمظفر لم يزل في معظم أوقاته في ذلك المجلس مشتغلاً في الكتب وفي القراءة والنسخ‏.‏

أقول ومن أعجب شيء منه أنه كان قد ملك ألوفاً كثيرة من الكتب في كل فن وأن جميع كتبه لا يوجد شيء منها إلا وقد كتب على ظهره ملحاً ونوادر مما يتعلق بالعلم الذي قد صنف ذلك الكتاب فيه وقد رأيت كتباً كثيرة من كتب الطب وغيرها من الكتب الحكمية كانت لأبي المظفر وعليها اسمه وما منها شيء إلا وعليه تعاليق مستحسنة وفوائد متفرقة من يجانس ذلك الكتاب‏.‏

ومن شعر بلمظفر بن معرف وقالوا الطبيعة مبدأ الكيان فيا ليت شعري ما هي الطبيعة أقادرة طبعت نفسها على ذاك أم ليس بالمستطيعة وقال أيضاً وقالوا الطبيعة معلومنا ونحن نبين ما حدها ولم يعرفوا الآن ما قبلها فكيف يرومون ما بعدها الشيخ السديد رئيس الطب هو القاضي الأجل السديد أبو المنصور عبد اللَّه بن الشيخ السديد أبي الحسن علي وكان لقب القاضي أبي المنصور شرف الدين وإنما غلب عليه لقب أبيه وعرف به وصار له علماً بأن يقال الشيخ السديد وكان عالماً بصناعة الطب خبيراً بأصولها وفروعها وجيد المعالجة كثير الدربة حسن الأعمال باليد وخدم الخلفاء المصريين وحظي في أيامهم ونال من جهتهم من الأموال الوافرة والنعم الجسيمة ما لم ينله غيره من سائر الأطباء الذين كانوا في زمانه ولا قريباً منه وكانت له عندهم المنزلة العليا والجاه الذي لا مزيد عليه وعمّر عمراً طويلاً وكان من بيتوتة صناعة الطب وكان أبوه أيضاً طبيباً للخلفاء المصريين مشهوراً في أيامهم‏.‏

حدثني القاضي نفيس الدين بن الزبير وكان قد لحق الشيخ السديد وقرأ عليه صناعة الطب قال قال لي الشيخ السديد رئيس الطب إن أول من مثلت بين يديه من الخلفاء وأنعم علي الآمر بأحكام اللَّه وذلك أن أبي كان طبيباً في خدمته وكان مكيناً عنده رفيع المنزلة في أيامه قال وكنت صبياً في ذلك الوقت فكان أبي يهب لي في كل يوم دراهم وأجلس عند باب الدار التي لنا وأقصد جماعة في كل نهار حتى تمرنت وصرت لي دربة جيدة في الفصد وكنت قد شدوت شيئاً من صناعة الطب فذكرني أبي عند الآمر وأخبره بما أنا عليه وأنني أعرف صناعة الفصد ولي درجة جيدة بها فاستدعاني فتوجهت إليه وأنا بحالة جميلة من الملبوس الفاخر والمركوب الفاره المتحلي بمثل الطوق الذهب وغيره وإنني لما دخلت إليه القصر مشيت مع أبي حتى صرنا بين يديه فقبلت الأرض وخدمت فقال لي افصد هذا الأستاذ وكان واقفاً بين يديه فقلت السمع والطاعة ثم جيء بطشت فضة وشددت عضده وكانت له عروق بينة الظهور ففصدته وربطت موضع الفصادة فقال لي أحسنت وأمر لي بإنعام كثيرة وخلع فاخرة وصرت من ذلك الوقت متردداً إلى القصر وملازماً للخدمة وأطلق لي من الجاري ما يقوم بكفايتي على أفضل الأحوال التي أؤملها وتواترت علي من الهبات والإطلاقات الشيء الكثير‏.‏

وحدثني أسعد الدين عبد العزيز بن أبي الحسن إن الشيخ السديد حصل له في يوم واحد من الخلفاء في بعض معالجاته لأحدهم ثلاثون ألف دينار وقال لي القاضي نفيس الدين بن الزبير عنه أنه لما طهر ولَدَي الحافظ لدين اللَّه حصل له في ذلك الوقت من المال نحو خمسين ألف دينار وأكثر من ذلك سوى ما كان في المجلس من أواني الذهب والفضة فإنها وهبت جميعها له وكانت له همة عالية وإنعام عام حدثني الشيخ رضي الدين الرحبي قال لما وصل المهذب بن النقاش إلى الشام من بغداد وكان فاضلاً في صناعة الطب أقام بدمشق مدة ولم يحصل له بها ما يقوم بكفايته وسمع بالديار المصرية وإنعام الخلفاء فيها وكرمهم وإحسانهم إلى من يقصدهم ولا سيما من أرباب العلم والفضل وتاقت نفسه إلى السفر وتوجهت أمانيه إلى الديار المصرية فلما وصلها أقام بها أياماً وكان قد سمع بالشيخ السديد طبيب الخلفاء وما هو عليه من الأفضال وسعة الحال والأخلاق الجميلة والمروءة العزيزة فمشى إلى داره وسلم عليه وعرفه بصناعته وأنه إنما أتى قاصداً إليه ومفوضاً كل أموره لديه ومغترفاً من بحر علمه ومعترفاً بأن مهما يصله من جهة الخلفاء فإنما هو من بره ويكون معتداً له بذلك في سائر عمره فتلقاه الشيخ السديد بما يليق بمثله وأكرمه غاية الإكرام ثم بعد ذلك قال له وكم تؤثر أن يطلق لك من الجامكية إذا كنت مقيماً بالقاهرة فقال يا مولانا يكفيني مهما تراه وما تأمر به فقال له قل بالجملة فقال واللَّه إن أطلق لي في كل شهر من الجاري عشرة دنانير مصرية فإني أراها خيراً كثيراً فقال له لا هذا القدر ما يقوم بكفايتك على ما ينبغي وأنا أقول لوكيلي أن يوصلك في كل شهر خمسة عشر ديناراً مصرية وقاعة قريبة مني تسكنها وهي بجميع فرشها وطرحها وجارية حسناء تكون لك ثم أخرج له بعد ذلك خلعة فاخرة ألبسه إياها وأمر الغلام أن يأتي له ببغلة من أجود دوابه فقدمها له ثم قال له هذا الجاري يصلك في كل شهر وجميع ما تحتاج إليه من الكتب وغيرها فهو يأتيك على ما تختاره وأريد منك أننا لا نخلو من الاجتماع والإنس وأنك لا تتطاول إلى شيء آخر من جهة الخلفاء ولا تتردد إلى أحد من أرباب الدولة فقبل ذلك منه ولم يزل ابن النقاش مقيماً في القاهرة على هذا الحال إلى أن رجع إلى الشام وأقام بدمشق إلى حين وفاته‏.‏

أقول وكان الشيخ السديد قد قرأ صناعة الطب واشتغل على أبي نصر عدنان بن العين زربي ولم يزل الشيخ السديد مبجلاً عند الخلفاء وأحواله تنمى وحرمته عندهم تتزايد من حين الآمر بأحكام اللَّه إلى آخر أيام العاضد باللَّه وذلك أنه كان وهو صبي مع أبيه في خدمة الآمر بأحكام اللّه وهو أبو المنصور بن أبي القاسم أحمد المستعلي باللَّه بن المستنصر إلى أن استشهد الآمر في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة من سنة أربع وعشرين وخمسائة بالجزيرة وكانت مدة خلافته ثمانية وعشرين سنة وتسعة أشهر وأيام ثم بقي في خدمة الحافظ لدين اللَّه وهو أبو الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد بن الإمام المستنصر باللَّه وبويع للحافظ يوم استشهاد الآخر ولم يزل في خدمة الحافظ إلى أن انتقل في اليوم الخامس من جمادى الآخرة من سنة أربع وأربعين وخمسمائة ثم خدم بعده للظافر بأمر اللَّه وهو أبو منصور إسماعيل بن الحافظ لدين اللَّه وبويع له في ليلة صباحها الخامس من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة عند انتقال والده ولم يزل في خدمته إلى أن استشهد الظافر بأمر اللَّه وذلك في التاسع والعشرين من المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة‏.‏

ثم بعد ذلك خدم الفائز بنصر اللَّه وهو أبو القاسم عيسى بن الظافر بأمر اللَّه وبويع له في الثلاثين من المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة ولم يزل في خدمته إلى أن انتقل الفائز بنصر اللَّه في سنة وخمسمائة ثم خدم بعده العاضد لدين اللَّه وهو أبو محمد عبد اللَّه بن المولى بن أبي الحجاج يوسف بن الإمام الحافظ لدين اللَّه ولم يزل في خدمة العاضد لدين اللَّه إلى أن انتقل في التاسع من المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة وهو آخر الخلفاء المصريين وخدمهم ونال في أيامهم من العطايا السنية والمنن الوافرة خمس خلفاء الآمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد ثم لما استبد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بالملك في القاهرة واستولى على الدولة كان يفتقد الشيخ السديد بالإنعام الكثير والهبات المتواترة والجامكية السنية مدة مقامه بالقاهرة إلى أن توجه إلى الشام وكان يستطبه ويعمل على وصفاته وما يشير به أكثر من بقية الأطباء ولم يزل الشيخ السديد رئيساً على سائر المتطببين إلى حين وفاته وكان يسكن في القاهرة عند باب زويلة في دار قد اعتني بها وبولغ في تحسينها وجرت عليه في أواخر عمره محنة وذلك أن داره قد احترقت وذهب له فيها من الأثاث والآلات والأمتعة شيء كثير جداً ولما تهدم بعضها من النار وقعت براني كبار وخوابي ممتلئة من الذهب المصري وتكسرت وتناثر فيها بعد الحريق والهدم منها الذهب إلى كل ناحية وشاهد الناس وبعضه قد انسبك من النار وكان مقدار وحدثني القاضي نفيس الدين بن الزبير إن الشيخ السديد كان قد رأى في منامه قبل ذلك بقليل أن داره التي هي ساكنها قد احترقت فاشتغل سره بذلك وعزم على الانتقال منها ثم إنه شرع في بناء دار قريبة منها وحث الصناع في بنائها وعند كمالها حيث لم يبق منها إلا مجلس واحد وينتقل إليها احترقت داره التي كان ساكنها وذلك في السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وخمسمائة والدار التي عمرها قريباً منها هي التي صارت بعده للصاحب صفي الدين بن شكر وزير الملك العادل أبي بكر بن أيوب وهي التي تعرف به الآن‏.‏

ونقلت من خط فخر الكتاب حسن بن علي بن إبراهيم الجويني الكاتب في الشيخ السديد عن حريق داره وذهاب منفوساته يعزيه وكان صديقاً له وبينهما أنس ومودة أيا من حق نعمته قديم على المرؤوس منا والرئيس فكم عاف أعدت له العوافي وكم عنا نضوت لباس بوس ويا من نفسه أعلى محلاً من المنفوس يعدم والنفيس جرعت مرارة أحلى مذاقاً لمثلك من كميت خندريس فعاين ما عراك بنور تقوى خلائقك التي هي كالشموس مصابك بالذي أضحى ثواباً يريك البشر في اليوم العبوس هموم الخلق في الدنيا شراب يدور عليهم مثل الكؤوس تروم الروح في الدنيا بعقل ترى الأرواح منها في حبوس وكل حوادث الدنيا يسير إذا بقيت حشاشات النفوس ونقلت أيضاً من خطه مما نظمه في مآثر القاضي السديد مجيزاً البيتين عملاً فيه وهما ولكل عافية عفت وقت فإن عُدت المريض فأنت من أوقاتها فاسلم ليسلم من تعلله فقد صحَّت بك الدنيا على علاتها فعمل هذه الأبيات بك عرّفت نفسي لذيذ حياتها سبحان منشرها عقيب مماتها وردت حياض الموت فاستنقذتها بمشيئة للّه بعد وفاتها وأعدت فائتها بقدرة قادر يسترجع الأشياء بعد فواتها فلذاك شكرك بعد شكر إلهها في سائر الأوقات من أوقاتها للَّه نفسك ما أتم ضياءها ألعلمها تعتام أم بركاتها تقوى تقرّ الروح في أوطانها ونهى تجير النفس من آفاتها ونزعت عنها النزع وهو مدافع لنسيم روح الروح عن لهواتها ولكم بإذن اللَّه عدت مودعاً نفساً فعدت بها إلى عاداتها يا من غدت ألفاظه لتلاوة القرآن تهدي البرء من نفثاتها يا أيها القاضي السديد ومن غدا للملة البيضاء من حسناتها يا من بعين العلم منه قريحة تتصور الأشياء في مرآتها للَّه فكرك مدركاً ما اكتن في الأعضاء عنه من جيمع جهاتها يحمي طريق الروح من دعاره فكأنه وال على طرقاتها للَّه في هذا الأنام لطائف خفيت عليهم أنت من آياتها ولكل عافية عفت وقت فإن عدت المريض فأنت من أوقاتها فأسلم ليسلم من تعلله فقد صحت بك الدنيا على علاتها ونقلت أيضاً من خطه مما نظمه فيه وقد عالجه من بعض الأمراض العظيمة الخطر فكتب إليه أواصل شكراً لست عنه بلاهي سفيراً غدا بيني وبين إلهي تنير له المشكلات بصيرة تريه خفايا الغائبات كما هي زمام العوافي والسقام بكفه له آمر في الفرقتين وناهي لك اللَّه يا عبد الإله فكم زهت ببهجتك الدنيا ولست بزاهي تجل عن الماء الزلال وجَله أن يقاس هواء منعش بمياه وتوفي الشيخ السديد رحمه اللّه بالقاهرة في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة

 ابن جميع

هو الشيخ الموفق شمس الرياسة أبو العشائر هبة اللَّه بن زين بن حسن ابن إفرائيم بن يعقوب بن إسماعيل بن جميع الإسرائيلي من الأطباء المشهورين والعلماء المذكورين والأكابر المتعينين وكان متفنناً في العلوم جيد المعرفة بها كثير الاجتهاد في صناعة الطب حسن المعالجة جيد التصنيف وقرأ صناعة الطب على الشيخ الموفق أبي نصر عدنان بن العين زربي ولزمه مدة وكان مولد ابن جميع ومنشؤه بفسطاط مصر وخدم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده عالي القدر نافذ الأمر يعتمد عليه في صناعة الطب وركب الترياق الكبير الفاروق وكان لابن جميع مجلس عام للذين يشتغلون عليه بصناعة الطب أقول ومما يؤيد ذلك ما نجده في مصنفاته فإنها جيدة التأليف كثيرة الفوائد منتخبة العلاج وكان له نظر في العربية وتحقيق للألفاظ اللغوية وكان لا يقرأ إلا وكتاب الصحاح للجوهري حاضر بين يديه ولا تمر كلمة لغة لم يعرفها حق المعرفة إلا ويكشفها منه ويعتمد على ما أورده الجوهري في ذلك وكنت يوماً عند الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح في داره بدمشق وكان ذلك في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب البلاد المصرية والشامية والصاحب جمال الدين يومئذ وزيره في سائر البلاد وهو صاحب السيف والقلم وفي خدمته مائتا فارس وتجارينا الحديث وتفضل وقال لي ما سبقك إلى تأليف كتابك في طبقات الأطباء أحد ثم قال لي وذكرت أصحابنا الأطباء المصريين فقلت له نعم فقال وكأني بك قد أشرت إلى أن ما في الأطباء المتقدمين منهم مثل ابن رضوان وفي المتأخرين مثل ابن جميع فقلت له صحيح يا مولانا‏.‏

وحدثني بعض المصريين أن ابن جميع كان يوماً جالساً في دكانه عند سوق القناديل بفسطاط مصر وقد مرت عليه جنازة فلما نظر إليها صاح بأهل الميت وذكر لهم أن صاحبهم لم يمت وأنهم إن دفنوه فإنما يدفنوه حياً قال فبقوا ناظرين إليه كالمتعجبين من قوله ولم يصدقوه فيما قال ثم إن بعضهم قال لبعض هذا الذي يقوله ما يضرنا إننا نمتحنه فإن كان حقاً فهو الذي نريده وإن لم يكن حقاً فما يتغير علينا شيء فاستدعوه إليهم وقالوا بين الذي قد قلت لنا فأمرهم بالمسير إلى البيت وأن ينزعوا عن الميت أكفانه وقال لهم احملوه إلى الحمام ثم سكب عليه الماء الحار وأحمى بدنه ونطله بنطولات وغطسه فرأوا فيه أدنى حس وتحرك حركة خفيفة فقال أبشروا بعافيته ثم تمم علاجه إلى أن أفاق وصلح فكان ذلك مبدأ اشتهاره بجودة الصناعة والعلم وظهرت عنه كالمعجزة ثم إنه سئل بعد ذلك من أين علمت أن ذلك الميت وهو محمول وعليه الأكفان أن فيه روحاً فقال إني نظرت إلى قدميه فوجدتهما قائمتين وأقدام الذين قد ماتوا منبسطة فحدست أنه حي وكان حدسي صائباً أقول وكان بمصر ابن المنجم المصري وكان شاعراً مشهوراً خبيث اللسان وله أهاجي كثيرة في ابن جميع ومن ذلك مما أنشدت له فيه لابن جميع في طبه حمق يسب طب المسيح من سببه وليس يدري ما في الزجاجة من بول مريض ولو تمخض به وأعجب الأمر أخذه أبداً أجرة قتل المريض من عصبه وله أيضاً فيه دعوا ابن جميع وبهتانه ودعواه في الطب والهندسة وقد جعل الشرب من شأنه ولكن كما تشرب النرجسه وله أيضاً فيه كذبت وصحفت فيما ادعيت وقلت أبوك جميع اليهودي وليس جميع اليهودي أباك ولكن أباك جميع اليهود ونقلت من خط يوسف بن هبة اللّه بن مسلم قصيدة لنفسه وهو يرثي بها الشيخ الموفق بن جميع وهي أعيني بما تحوي من الدمع فاسجعي وإن نفذت منك الدموع فبالدم فحق بأن تذرفي على فقد سيد فقدنا به فضل العلا والتكرم وأفضل أهل العصر علماً وسؤدداً وأفضلهم في مشكل القول مبهم وأهداهم بالرأي والأمر مبهم وأعلمهم بالغيب علم تفهم وأرحبهم صدراً وكفاً ومنزلاً ووجهاً كمثل الصبح عند التبسم وأنجد من يممته لملمة وأنجد من أملته لتألم ولو كان يفدى من حمام فديته بنفس متى تقدم على الموت تقرم وما رد بقراطاً عن الموت طبه وقد كان من أعيانه في التقدم ولا حاد جالينوس عن حتف يومه فسلم ما أعياه للمتسلم لا كسر كسرى ثم تابع تبعاً وعاد بعاد ثم جر بجرهم فقل معلناً للشامتين بيومه ذروا الجهل إن الجهل منكم بمأتم تمر سفيهات الرياح عواصفاً فهل زعزعت ضعفاً نبات يلملم وما سرح السرح الضعيف حراكه بأرض فكان الليث فيها بمجثم ألم يك ذا ورد النفوس بأسرها فكل أخير تابع المتقدم فلا فرح إلا ويعقبه الأسى ولا غاية البنيان غير التهدم فقبحاً لدهر ردنا بعد فقده حيارى بلا هاد حليف التيتم أما عجب إذ غاله الحتف رامياً وقد كان أرمى للخطوب بأسهم وأهدى إلى الداء الخفي بعلمه إذا جال بين اللحم والعظم والدم وأرفع بيتاً في القبيل مكارما كما لاح بدر التم ما بين أنجم لعمرك ما قلب الشجي كغيره ولا محرق الأحشاء كالمتجشم ولا كل من أجرى المدامع ثاكل وأين جميل في الأسى من متمم فلا تعذلوني إن بكيت تأسفاًَ فقدر عظيم الحزن قدر المعظّم وواللّه ما وفيت واجب حقه ولو أن جسمي كل عين بمرزم وإني لأفني مدة العمر والهاً تصرم أيامي ولم يتصرم فويح المنايا ما درت كنه حادث رمت سيداً يحيا به كل منعم ثوى بين أحجار الثرى ولقد غدى يضوع به النادي ذكي التنسم وطلق المحيا رائق البشر باسماً وليس بفظ الخلق كالمتجهم وقد كنت أهديه الثناء مبجلاً فها أنا أهديه الرثا جهد معدم فيا قبره الوضاح لم يدر ما حوى ترابك من جود ومجد مخيم سقاك من الوسمي كل سحابة تحيل عليك العين ذات توسم ولا زال منك النشر يأرج عرفه فيهديه أنفاس الصبا بمسلم أحوالها وأحوال أهلها رسالة إلى القاضي المكين أبي القاسم علي ابن الحسين فيما يعتمده حيث لا يجد طبيباً مقالة في الليمون وشرابه ومنافعه مقالة في الراوند ومنافعه مقالة في الحدبة مقالة في علاج القولنج واسمها الرسالة السيفية في الأدوية الملوكية‏.‏

 أبو البيان بن المدور

لقب بالسديد وكان يهودياً قراءً عالماً بصناعة الطب حسن المعرفة بأعمالها وله مجربات كثيرة وآثار محمودة وخدم الخلفاء المصريين في آخر دولتهم وبعد ذلك خدم الملك الناصر صلاح الدين وكان يرى له ويعتمدعلى معالجته وله فيه حسن ظن وكانت له منه الجامكية الكثيرة والافتقاد المتوفر وعمر الشيخ أبو البيان بن المدور وتعطل في آخر عمره من الكبر والضعف من كثرة الحركة والتردد إلى الخدمة فأطلق له الملك الناصر صلاح الدين رحمه اللّه في كل شهر أربعة وعشرين ديناراً مصرية تصل إليه ويكون ملازماً لبيته ولا يكلف خدمة وبقي على تلك الحال وجامكيته تصل إليه نحو عشرين سنة وكان في مدة انقطاعه في بيته لا يخل بالاشتغال في صناعة الطب ولا يخلو موضعه من التلاميذ والمشتغلين عليه والمستوصفين منه وكان لا يمضي إلى أحد لمعالجته في تلك المدة إلا من يعز عليه جداً ولقد بلغني عنه من ذلك أن الأمير ابن منقذ لما وصل من اليمن وكان قد عرض له استسقاء بعث إليه ليأتيه ويعالجه بالمعالجة فاعتذر إليه على قرب موضعه منه ولم يمض إليه دون أن بعث إليه القاضي الفاضل وكيله ابن سناء الملك وقصده في ذلك حتى مضى إليه ووصف له ما يعتمد عليه في المداواة وعاش أبو البيان بن المدور ثلاثاً وثمانين سنة وتوفي في سنة ثمانين وخمسمائة بالقاهرة وكان من تلاميذه زين الحساب ولأبي البيان بن المدور من الكتب مجرباته في الطب‏.‏

 أبو الفضائل بن الناقد

لقبه المهذب كان طبيباً مشهوراً وعالماً مذكورراً له العلم الوافر والأعمال الحسنة والمداواة الفاضلة وكان يهودياً مشتهراً بالطب والكحل إلا أن الكحل كان أغلب عليه وكان كثير المعاش عظيم الاشتيام حتى أن الطلبة والمشتغلين عليه كانوا في أكثر أوقاته يقرؤون عليه وهو راكب وقت مسيره وافتقاده للمرضى وتوفي سنة أربع وثمانين وخسمائة بالقاهرة وأسلم ولده أبو الفرج وكان طبيباً وكحالاً أيضاً وحدثني أبي قال كان قد أتى إلى أبي الفضائل بن الناقد صاحب له من اليهود ضعيف الحال وطلب منه أن يرفده بشيء فأجلسه عند داره وقال له معاشي اليوم بختك ورزقك وركب ودار على المرضى والذين يكحلهم ولما عاد أخرج عدة الكحل وفيها قراطيس كثيرة مصرورة وشرع يفتح واحدة واحدة منها فمنها ما فيها الدينار والأكثر ومنها ما فيها دراهم ناصرية وبعضها فيها دراهم سواد فاجتمع من ذلك ما يكون قيمته الجملة نحو ثلاثمائة درهم سود فأعطاها ذلك الرجل ثم قال واللَّه جميع هذه الكواغد ما أعرف الذي أعطاني الذهب أو الدراهم أو الكثير منها أو القليل بل كل من أعطاني شيئاً أجعله في عدة الكحل وهذا يدل على معاش زائد وقبول كثير ولأبي الفضائل بن الناقد من الكتب مجرباته في الطب‏.‏

 الرئيس هبة اللَّه

كان إسرائيلياً فاضلاً مشهوراً بالطب جيد الأعمال حسن المعالجة وكان في آخر دولة الخلفاء المصريين وخدمهم بصناعة الطب وكانت له منهم الجامكية الوافرة والصلات المتوالية ثم انقرضت دولتهم وبقي بعدهم يعيش فيما أنعموا به عليه إلى أن توفي وكانت وفاته في سنة خمسمائة ونيف وثمانين‏.‏

 الموفق بن شوعة

كان من أعيان العلماء وأفاضل الأطباء إسرائيلي مشهور بإتقان الصناعة وجودة المعرفة في علم الطب والكحل والجراح كان دمثا خفيف الروح كثير المجون وكان يشعر ويلعب بالقيثارة خدم الملك الناصر صلاح الدين بالطب لما كان بمصر وعلت منزلته عنده وكان بدمشق فقيه صوفي صحب محمد بن يحيى وسكن خانقاه السميساطي كان يعرف بالخوبشاني ويلقب بالنجم وله معرفة بنجم الدين أيوب وبأخيه أسد الدين وكان الخوبشاني ثقيل الروح قشفاً في العيش يابساً في الدين يأكل الدنيا بالناموس ولما صعد أسد الدين مصر تبعه ونزل بمسجد عند دار الوزارة يعرف اليوم بمسجد الخوبشاني وكان يثلب أهل القصر ويجعل تسبيحه سبهم وكان سلطاً ومتى رأى ذمياً راكباً قصد قتله فكانوا يتحامونه ولما كان في بعض الأيام رأى ابن شوعة وهو راكب فرماه بحجر أصاب عينه فقلعها وتوفي ابن شوعة بالقاهرة في سنة تسع وسبعين وخمسمائة‏.‏

ومن شعر الموفق بن شوعة أنشدني القاضي نفيس الدين بن الزبير قال أنشدني الموفق بن شوعة لنفسه فمن ذلك قال في النجم الخوبشاني لما قلع عينه لا تعجبوا من شعاع الشمس إذ حسرت منه العيون وهذا الشأن مشهور بل اعجبوا كيف أعمى مقلتي نظري للنجم وهو ضئيل الشخص مستور أنشدني المذكرلنفسه يهجو ابن جميع اليهودي يا أيها المدعي طباً وهندسة أوضحت يا ابن جميع واضح الزور إن كنت بالطب ذا علم فلم عجزت قواك عن طب داء فيك مستور تحتاج فيه طبيباً ذا معالجة بمبضع طوله شبران مطرور هذا ولا تشتفي منه فقل وأجب عن ذا السؤال بتمييز وتفكير ما هندسي له شكل تهيم به وليس ترغب فيه غير منشور مجسم أسطواني على أكر تألفت بين مخروط وتدوير مجسم إلا نصف زاوية فهو كمثل الحبل في البير وقال أيضاً وروضة جادها صوب الربيع فقد جادت علينا بوشي لم تحكه يد كأن أصغره الزاهي وأبيضها تبر وورق بكف الريح تنتقد وباح نشر خزاماها بما كتمت وناح قمريها شجواً بما يجد

 أبو البركات بن القضاعي

لقبه الموفق وكان من جملة الأطباء المهرة والمتميزين في صناعة الطب وكان مشكوراً في علمها مشهوراً بجودة المعرفة في علمها وكان يعاني أيضاً صناعة الكحل والجراح ويعد من الأفاضل فيهما وخدم بصناعة الطب الملك الناصر صلاح الدين في الديارالمصرية وتوفي أبو البركات بن القضاعي بالقاهرة في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة‏.‏

 أبو المعالي بن تمام

هو أبو المعالي تمام بن هبة الله بن تمام يهودي غزير العلم وافر المعرفة وكان مشهوراً في الدولة موصوفاً بالفضل مشكوراً بالمعالجة وكان مقيماً بفسطاط مصر وأسلم جماعة من أولاده وكان أبو المعالي قد خدم بصناعة الطب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وحظي في أيامه وخدم أيضاً بعد ذلك لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب‏.‏

ولأبي المعالي بن تمام من الكتب تعاليق ومجربات في الطب

 الرئيس موسى

هو الرئيس أبو عمران موسى بن ميمون القرطبي يهودي عالم بسنن اليهود ويعد من أحبارهم وفضلائهم وكان رئيساً عليهم في الديار المصرية وهو أوحد زمانه في صناعة الطب وفي أعمالها متفنن في العلوم وله معرفة جيدة بالفلسفة وكان السلطان الملك الناصر صلاح الدين يرى له ويستطبه وكذلك ولده الملك الأفضل علي وقيل إن الرئيس موسى كان قد أسلم في المغرب وحفظ القرآن واشتغل بالفقه ثم إنه لما توجه إلى الديار المصرية وأقام بفسطاط مصر ارتد وقال القاضي السعيد بن سناء الملك يمدح الرئيس موسى أرى طب جالينوس للجسم وحده وطب أبي عمران للعقل والجسم فلو أنه طب الزمان بعلمه لأبراه من داء الجهالة بالعلم ولو كان بدر التم من يستطبه لتم له ما يدعيه من التم وداواه يوم التم من كلف به وأبرأه يوم السرار من السقم وللرئيس موسى من الكتب اختصار الكتب الستة عشر لجالينوس مقالة في البواسير وعلاجها مقالة في تدبير الصحة صنفها للملك الأفضل علي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب مقالة في السموم والتحرز من الأدوية القتالة كتاب شرح العقار كتاب كبير على مذهب اليهود‏.‏

 إبراهيم بن الرئيس موسى

هو أبو المنى إبراهيم بن الرئيس موسى بن ميمون منشؤه بفسطاط مصر وكان طبيباً مشهوراً عالماً بصناعة الطب جيداً في أعمالها وكان في خدمة الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب ويتردد أيضاً إلى البيمارستان الذي بالقاهرة من القصر ويعالج المرضى فيه واجتمعت به سنة إحدى وثلاثين أو اثنتين وثلاثين وستمائة بالقاهرة وكنت حينئذ أطب في البيمارستان بها فوجدته شيخاً طويلاً نحيف الجسم حسن العشرة لطيف الكلام متميزاً في الطب وتوفي إبراهيم بن الرئيس موسى بمصر في سنة وثلاثين وستمائة

 أبو البركات بن شعيا

ولقبه الموفق شيخ مشهور كثير التجارب مشكور الأعمال في صناعة الطب وكان يهودياً قراء عاش ستاً وثمانين سنة وتوفي بالقاهرة وخلف ولداً يقال له سعيد الدولة أبو الفخر وهو طبيب أيضاً ومقامه بالقاهرة‏.‏

 الأسعد المحلي

هو أسعد الدين يعقوب بن إسحاق يهودي من مدينة المحلة من أعمال ديار مصر متميز في الفضائل وله اشتغال بالحكمة واطلاع على دقائقها وهو من المشهورين في صناعة الطب والخبيرين بالمداواة والعلاج وأقام بالقاهرة وسافر في أول سنة ثمان وتسعين وخمسمائة إلى دمشق وأقام بهامديدة وجرت بينه وبين بعض الأفضال من الأطباء بها مباحث كثيرة ونكد ورجع بعد ذلك إلى الديار المصرية وتوفي بالقاهرة ومن نوادره في حسن المداواة أنه كان بعض أهلنا من النساء قد عرض لها مرض وتغير مزاج وتطاول بها ولم ينجع فيها علاج فلما افتقدها قال لعمي وكان صديقه عندي أقراص قد ركبتها لهذا المرض خاصة وهي تبرأ بها إن شاء اللَّه تكون تتناول في كل يوم بالغداة منها قرصاً مع شراب سكنجبين وأعطاه الأقراص فلما ناولتها برأت وللأسعد المحلي من الكتب مقالة في قوانين طبية وهي ستة أبواب كتاب المنزه في حل ما وقع من إدراك البصر في المرايا من الشبه كتاب في مزاج دمشق ووصفها وتفاوتها من مصر وأنها أصح وأعدل وفي مسائل أخر في الطب وأجوبتها وهو يحتوي على ثلاث مقالات مسائل طبية وأجوبتها سألها لبعض الأطباء بدمشق وهو صدقة بن ميخا بن صدقة السامري‏.‏

 الشيخ السديد بن أبي البيان

هو سديد الدين أبو الفضل داوود بن أبي البيان سليمان بن أبي الفرج إسرائيل بن أبي الطيب سليمان بن مبارك إسرائيلي قراء مولده في سنة ست وخمسين وخمسمائة بالقاهرة وكان شيخاً محققاً للصناعة الطبية متقناً لها متميزاً في علمها وعملها خبيراً بالأدوية المفردة والمركبة ولقد شاهدت منه حيث نعالج المرضى بالبيمارستان الناصري بالقاهرة من حسن تأنيه لمعرفة الأمراض وتحقيقها وذكر مداواتها والاطلاع على ما ذكره جالينوس فيها ما يعجز عن الوصف وكان أقدر أهل زمانه من الأطباء على تركيب الأدوية ومعرفة مقاديرها وأوزانها على ما ينبغي حتى إنه كان في أوقات يأتي إليه من المستوصفين من به أمراض مختلفة أو قليلة الحدوث فكان يملي صفات أدوية مركبة بحسب ما يحتاج إليه ذلك المريض من الأقراص والسفوفات والأشربة أو غير ذلك في الوقت الحاضر وهي في نهاية الجودة وحسن التأليف وكان شيخه في صناعة الطب الرئيس هبة اللَّه بن جميع اليهودي وقرأ أيضاً على أبي الفضائل بن الناقد وكان الشيخ السديد بن أبي البيان قد خدم الملك العادل أبا بكر بن أيوب ووجدت لبعض فيه إذا أشكل الداء في باطن أتى ابن بيان له بالبيان فإن كنت ترغب في صحة فخذ لسقامك منه الأمان وعاش فوق الثمانين سنة وكان قد ضعف بصره في آخر عمره‏.‏

وللشيخ السديد بن أبي البيان من الكتب كتاب الأقراباذين وهو اثنا عشر باباً قد أجاد في جمعه وبالغ في تأليفه واقتصر على الأدوية المركبة المستعملة المتداولة في البيمارستانات بمصر والشام والعراق وحوانيت الصيادلة وقرأته عليه وجمعته معه وتعاليق على كتاب العلل والأعراض لجالينوس‏.‏

 جمال الدين بن أبي الحوافر

هو الشيخ الإمام العالم أبو عمرو عثمان بن هبة اللّه بن أحمد بن عقيل القيسي ويعرف بابن أبي الحوافر أفضل الأطباء وسيد العلماء وأوحد العصر وفريد الدهر قد أتقن الصناعة الطبية وتميز في أقسامها العلمية والعملية وله اشتغال جيد بعلم الأدب وعناية فيه وله شعر كثير صحيح المباني بديع المعاني وكان رحمه اللَّه كثير المروءة عزيز العربية معروفاً بالأفضال موصوفاً بحسن الخلال قد غمر بإحسانه الخاص والعام وشملهم بكثرة الإنعام مولده ومنشؤه بدمشق واشتغل بصناعة الطب على الإمام مهذب الدين بن النقاش وعلى الشيخ رضي الدين الرحبي وخدم بصناعة الطب الملك العزيز عثمان بن الملك الناصر صلاح الدين وأقام معه في الديار المصرية وولاه رياسة الطب ولم يزل في خدمته وهو كثير الإحسان إليه والإنعام عليه إلى أن توفي الملك العزيز رحمه اللّه وكانت وفاته ليلة الأحد العشرين من المحرم سنة خمس وتسعين وخمسمائة بالقاهرة وبقي هو مقيماً بالديار المصرية وقطن بها ثم خدم بعد ذلك الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب وبقي معه سنين وتوفي جمال الدين بن أبي الحوافر رحمه الله بالقاهرة‏.‏

وحدثني بعض أصدقائه قال كان يوماً راكباً فرأى في بعض النواحي على مصطبة بياع حمص مسلوق وهو قاعد وقدامه كحال يهودي وهو واقف وبيده المكحلة والميل هو يكحل ذلك البياع فحين رآه على تلك الحال ساق بغلته نحوه وضربه بالمقرعة على رأسه وشتمه وعندما مشى معه قال له إذا كنت أنت سفلة في نفسك أما للصناعة حرمة كنت قعدت إلى جانبه وكحلته ولا تبقى واقفاً بين يدي عامي بياع حمص فتاب أن يعود يفعل مثل ذلك الفعل وانصرف‏.‏

أقول واشتغل على الشيخ جمال الدين بن أبي الحوافر جماعة وتميزوا في صناعة الطب وأفضل من اشتغل عليه منه وكان أجل تلامذته وأعملهم عمي الحكيم رشيد الدين علي بن خليفة رحمه اللّه‏.‏

 فتح الدين بن جمال الدين بن أبي الحوافر

كان مثل أبيه جمال الدين في العلم والفضل والنباهة نزيه النفس صائب الحدس أعلم الناس بمعرفة الأمراض وتحقيق الأسباب والأعراض حسن العلاج والمداواة لطيف التدبير والمداراة عالي الهمة كثير المروءة فصيح اللسان كثير الإحسان وخدم بصناعة الطب الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب وبعد الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محمد وتوفي رحمه اللَّه في أيامه بالقاهرة‏.‏

 شهاب الدين بن فتح الدين

هو سيد العلماء ورئيس الأطباء علامة زمانه وأوحد أوانه قد جمع الفضائل وتميز على الأواخر والأوائل وأتقن الصناعة الطبية علماً وعملاً وحررها تفصيلاً وجملاً وهو علامة وقته في حفظ الصحة ومراعاتها وإزالة الأمراض وعلاجاتها وقد قتفى سيرة آبائه وفاق نظراءه في همته وإبائه‏.‏

ورث المكارم عن أبيه وجده كالرمح أنبوباً على أنبوب ومقامه في الديار المصرية وخدم بصناعة الطب الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الملك الصالح صاحب الديار المصرية والشامية‏.‏

 القاضي نفيس الدين بن الزبير

هو القاضي الحكيم نفيس الدين أبو القاسم هبة اللَّه ابن صدقة بن عبد اللّه الكولمي والكولم من بلاد الهند وهو ينسب من جهة أمه إلى ابن الزبير الشاعر المشهور الذي كان بالديار المصرية وهو القائل يا ربع أين ترى الأحبة يمموا هل أنجدوا من بعدنا أو أتهموا ومولد القاضي نفيس الدين في سنة خمس أو ست وخمسين وخمسمائة وقرأ صناعة الطب على ابن شوعة أولاً وقرأ بعد ذلك على الشيخ السيد رئيس الطب وتميز في صناعة الطب وحاول أعمالها وأتقن أيضاً صناعة الكحل وعلم الجراح وكثرت شهرته بصناعة الكحل وولاه الملك الكامل ابن الملك العادل رياسة الطب بالديار المصرية ويكحل في البيمارستان الناصري الذي كان من جملة القصر للخلفاء المصريين وتوفي القاضي نفيس الدين بن الزبير رحمه اللّه بالقاهرة في سنة ست وثلاثين وستمائة وله أولاد مقيمون في القاهرة وهم من المشهورين بصناعة الحكل والمتميزين في علمها وعملها‏.‏

 أفضل الدين الخونجي

هو الإمام العالم الصدر الكامل سيد العلماء والحكماء أوحد زمانه وعلامة أوانه أفضل الدين أبو عبد الله محمد بن ناماوار الخونجي قد تميز في العلوم الحكمية وأتقن الأمور الشرعية قوي الاشتغال كثير التحصيل اجتمعت به في القاهرة في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة فوجدته الغاية القصوى في سائر العلوم وقرأت عليه بعض الكليات من كتاب القانون للرئيس بن سينا وكان في بعض الأوقات يعرض له انشداه خاطر لكثرة أنصباب ذهنه إلى العلم وتوفر فكرته فيه وفي آخر أمره تولى القضاء بمصر وصار قاضي القضاة بها وبأعمالها وكانت وفاته رحمه اللَّه بالقاهرة يوم الأربعاء خامس شهر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة ودفن بالقرافة وقال الشيخ عز الدين محمد ابن حسن الغنوي الضرير الأربلي يرثيه قضى أفضل الدنيا فلم يبق فاضل ومات بموت الخونجي الفضائل فيها أيها الحبر الذي جاء أخرة فحل لنا ما لم تحل الأوائل ومستنبط العلم الخفي بفكرة بها اتضحت للسائلين المسائل وفاتح باب المشكلات بها لنا فلم يسم لولاه لها المتطاول وحبراً إذا قيس البحار بعلمه غدا علمه بحراً وتلك الجداول فليت المنايا عنه طاش سهامها وكانت أصيبت من سواه المقاتل أتدري بمن قد سار حامل نعشه عداه أحبوه ومن هو حامل فإن غيبوه في الثرى عن عيوننا فما علمه خاف ولا الذكر خامل وإن أفِلت شمس المعالي بموته فما علمه عن طالب العلم زائل وما كنت أدري أن للشمس في الثرى أفولاً وأن البدر في الترب نازل إلى أن رأيناه وقد حل قبره قضينا بأن البدر في اللحد حاصل ولأفضل الدين الخونجي من الكتب شرح ما قاله الرئيس بن سينا في النبض مقالة في الخدور والوروم كتاب الجمل في علم المنطق كتاب كشف الأسرار في علم المنطق كتاب الموجز في المنطق كتاب أدوار الحميات‏.‏

 أبوسليمان داود بن أبي المنى بن أبي

فانة كان طبيباً نصرانياً بمصر في زمان الخلفاء وكان حظياً عندهم فاضلاً في الصناعة الطبية خبيراً بعلمها وعملها متميزاً في العلوم وكان من أهل القدس ثم انتقل إلى الديار المصرية وكانت له معرفة بالغة بأحكام النجوم‏.‏

حدثني الحكيم رشيد الدين أبو حليقة بن الفارس بن أبي سليمان المذكور قال سمعت الأمير مجد الدين أخا الفقيه عيسى وهو يحدث السلطان الملك الكامل بشر مساح عند حضوره إليه بعد وفاة الملك العادل ونزول الفرنج على ثغر دمياط من أحوال جدي أبي سليمان داود ما هذا نصه قال كان الحكيم أبو سليمان في زمان الخلفاء وكان له خمسة أولاد فلما وصل الملك مارى إلى الديار المصرية أعجبه طبه فطلبه من الخليفة بها ونقله هو وأولاده الخمسة إلى البيت المقدس ونشأ للملك مارى ولد مجذم فركب له الترياق الفاروقي بالبيت المقدس وترهب وترك ولده الأكبر وهو الحكيم المهذب أبو سعيد خليفته على منزله وإخوته‏.‏

واتفق أن ملك الفرنج المذكور بالبيت المقدس أسر الفقيه عيسى ومرض فسيره الملك لمداواته فلما وصل إليه وجده في الجب مثقلاً بالحديد فرجع إلى الملك وقال له إن هذا الرجل ذو نعمة ولو سقيته ماء الحياة وهو على هذا الحال لم ينتفع به قال الملك فما أفعل في أمره قال يطلقه الملك من الجب ويفك عنه حديده ويكرمه فما يحتاج إلى مداواة أكثر من هذا فقال الملك نخاف أن يهرب وقطيعته كثيرة قال للملك سلمه إلي وضمانه علي فقال له تسلمه وإذا جاءت قطيعته كان لك منها ألف دينار فمضى وشاله من الجب وفك حديده وأخلى له موضعاً في داره أقام فيه ستة أشهر يخدمه فيها أتم خدمة فلما جاءت قطيعته طلب الملك الحكيم أبا سعيد ليحضر له الفقيه المذكور فحضر وهو صحبته ووجد قطيعته في أكياس بين يديه فأعطاه منه الكيس الذي وعده به فلما أخذه قال له يا مولانا هذه الألف دينار قد صارت لي أتصرف فيها تصرف الملاك في أملاكهم فقال له نعم فأعطاها للفقيه في المجلس وقال له أنا أعرف أن هذه القطيعة ما جاءت إلا وقد تركت خلفك شيئاً وربما قد تدني لك شيئاً آخر فتقبل مني هذه الألف دينار إعانة نفقة الطريق فقبلها الفقيه منه وسافر إلى الملك الناصر‏.‏

واتفق أن الحكيم أبا سليمان داود المذكور ظهر له في أحكام النجوم أن الملك الناصر يفتح البيت المقدس في اليوم الفلاني من الشهر الفلاني من السنة الفلانية وأنه يدخل إليها من باب الرحمة فقال لأحد أولاده الخمسة وهو الفارس أبو الخير بن أبي سليمان داود المذكور وكان هذا الولد قد تربى مع الولد المجذم ملك البيت المقدس وعلمه الفروسية فلما توج الملك فرسه وخرج المذكور من بين إخوته الأربعة الأطباء جندياً وكان قول الحكيم أبي سليمان لولده هذا بأن يمضي رسولاً عنه إلى الملك الناصر ويبشره بملك البيت المقدس في الوقت المذكور فامتثل مرسومه ومضى إلى الملك الناصر فاتفق وصوله إليه في غرة سنة ثمانين وخمسمائة والناس يهنؤونه بها وهم على فاميه فمضى إلى الفقيه المذكور ففرح به غاية الفرح ودخل به إلى الملك الناصر وأوصل إليه الرسالة عن أبيه ففرح بذلك فرحاً شديداً وأنعم عليه بجائزة سنية وأعطاه علماً أصفر ونشابة من رنكة وقال له متى يسّر اللَّه ما ذكرت اجعلوا هذا العلم الأصفر والنشابة فوق داركم فالحارة التي أنتم فيها تسلم جميعها في خفارة داركم فلما حضر الوقت صح جميع ما قاله الحكيم المذكور فدخل الفقيه عيسى إلى الدار التي كان مقيماً بها ليحفظها ولم يسلم من البيت المقدس من الأسر والقتل ووزن القطيعة سوى بيت هذا الحكيم المذكور وضاعف لأولاده ما كان لهم عند الفرنج وكتب له كتاباً إلى سائر ممالكه براً وبحراً بمسامحتهم بجميع الحقوق اللازمة للنصارى فاعفوا عنها إلى الآن وتوفي الحكيم أبو سليمان المذكور بعد أن استدعاه الملك الناصر إليه وقام له قائماً وقال له أنت شيخ مبارك قد وصل إلينا بشراك وتم جميع ما ذكرته فتمن علي فقال له أتمنى عليك حفظ أولادي فأخذ الملك الناصر أولاده واعتنى بهم وأعطاهم للملك العادل ووصاه بأن يكرمهم ويكونوا من الخواص عنده وعند أولاده وكان كذلك أقول وكان فتح السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب للقدس في سابع وعشرين رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة